بسم الله، والحمدُ لله، والصلاة والسلام على رسولِ الله، وبعد:
فقد فضَّل الله عزَّ وجلَّ بعضَ الأزمنة على بعضها، وخصَّ بعض الأوقات
بأجور دون غيرها، فكان شهر رمضان خيرَ الشهور، وليلة القَدْر أكرم الليالي،
وساعات الليل الأخيرة أفضلَ الساعات؛ قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ
فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ .
لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر:1-3]، وعن أبي
هُريرة رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن قام
ليلة القدْر إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم من ذَنبه، ومَن صام
رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدَّم مِن ذنبه» (صحيح البخاري)،
وعنه أيضًا قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَنزِل ربُّنا تبارك
وتعالى كلَّ ليلة إلى السماء الدنيا حين يَبقَى ثُلُث الليل الآخر، فيقول:
مَن يدعوني فأستجيبَ له؟ ومَن يسألني فأعطيَه؟ ومَن يستغفرني فأغفرَ له؟»
(متفق عليه).
من أجل ذلك حثَّنا الله عزَّ وجلَّ ورسوله صلَّى الله عليه وسلَّم على
عمارةِ هذه الأوقات بالطاعات، والإكثار مِن العبادات، لما لها مِن فضل
وتكريم، ومنها: يوم الجمعة، ويوم عرفة، والثلاثة مِن كل شهر، والعشر مِن ذي
الحجَّة، والست من شوال، وغيرها.
وقد خصَّ الله عزَّ وجلَّ شهر شعبان بفضيلة رفْع أعمال العباد فيه، ولأجل
هذه الفضيلة فقدْ كان النبي صلَّى الله عليه وسلَّم يخصُّ هذا الشهر
بالصيام أكثرَ مِن غيره ما خلا رمضان، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما
قال: قلت: يا رسولَ الله، لم أرَك تصوم شهرًا مِن الشهور ما تصومُ مِن
شعبان؟! قال: «ذلك شهرٌ يغفُل الناس عنه بين رجَب ورمضان، وهو شهرٌ تُرفَع
فيه الأعمالُ إلى ربِّ العالمين، فأحبُّ أن يُرفَع عمِلي وأنا صائِم»
(مسند أحمد وسُنن النسائي، وحسنه الألباني).
وفي الصحيحين عن أمِّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: "ما رأيتُ رسولَ
اللَّهِ صلَّى الله عليه وسلَّم استكملَ صِيامَ شهر قطُّ إلاَّ رَمَضان،
وَما رَأَيْتُهُ في شَهْرٍ أكْثَرَ مِنه صِيَامًا في شَعْبَان" (متفق
عليه).
وكذا، فمِن الطاعات والعبادات المستحبة في شعبان الإكثارُ مِن صلاة
النَّفل، والصدقة وتلاوة القرآن، فهذا عمرو بن قيس الملائي رحمه الله تعالى
كان إذا دخَل شعبان أغْلَق حانوته وتفرَّغ لقِراءة القرآن في شعبان
ورمضان، وكان الحسنُ بن شهيل رحمه الله تعالى يُكثر فيهما مِن قراءة
القرآن، ويقول: "ربِّ جعلتني بين شهرين عظيمين".
وكما أنَّ الإكثار مِن العبادات مستحبٌّ في الأزمنة والأمكِنة الفاضلة،
فإنَّ ترْك المحرمات واجبٌ مؤكَّد فيها، فكما أنَّ الحسنات تضاعف في هذه
الأوقات والأماكن، فإنَّ السيئات تضاعَف فيها، لذا على العبد أن يبادرَ إلى
نبْذ المحرَّمات في هذا الشهر الكريم، فإنَّ الأعمال ترفع فيه، ولعلَّها
تكون آخِر أعمال العبد المرفوعة فيُختَم له بالسوء عافانا الله.
قال الحافظ ابنُ رجب رحمه الله: "قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «شَهْرٌ
يَغْفُلُ النَّاسُ عنه» فيه دليلٌ على استحباب عمارة أوقاتِ غفْلة الناس
بالطاعة، وأنَّ ذلك محبوبٌ عندَ الله عزَّ وجلَّ، وفي إحياء الوقتِ المغفول
عنه بالطاعة فوائد:
منها: أنَّه يكون أخْفى، وإخفاء النوافِل وإسرارها أفضل.
ومنها: أنَّه أشقُّ على النفوس، وأفضلُ الأعمال أشقُّها على النفوس، وسببُ
ذلك أنَّ النفوس تتأسَّى بما تشاهده مِن أحوال أبناء الجِنس، فإذا كثُرتْ
يقظةُ الناس وطاعاتهم كثُر أهلُ الطاعة، لكثرةِ المقتدين بهم، فسهلت
الطاعَة، وإذا كثُرتِ الغفلات وأهلها تأسَّى بهم عموم الناس، فيشق على نفوس
المتيقظين طاعاتهم، لقلَّة مَن يقتدون بهم فيها.
ومنها: أنَّ المنفرد بالطاعة بيْن أهل المعاصي والغفْلة قد يُدْفَعُ به البلاءُ عن الناس كلِّهم، فكأنه يَحميهم ويدافع عنهم".
ومِن الفوائد المرجوَّة كذلك مِن الصيام في هذا الشهر:
توطين النفس وتهيئتها لصيام رمضان، فإذا أقْبل رمضان كانتْ مستعدَّة
لصيامه بقوَّة ونشاط، قادِرة عليه دون عناءٍ وتكلُّف، متأهِّبة لغيره مِن
العبادات والطاعات، فتعظيم شعبان مِن تعظيم رمضان كالسُّنة القبليَّة
للصلاة المفروضة، تعظيمًا لحقها، وتأهبًا لأدائها، ولله درُّ عمار بن ياسر
رضي الله عنه فقد روي أنه كان يتهيأ لصوم شعبان، كما يتهيأ لصوم رمضان!
مَضَى رَجَبٌ وَمَا أَحْسَنْتَ فِيهِ *** وَهَذَا شَهْرُ شَعْبَانَ المُبَارَكْ
فَيَا مَنْ ضَيَّعَ الأَوْقَاتَ جَهْلاً *** بِحُرْمَتِهَا أَفِقْ وَاحْذَرْ بَوَارَكْ
فَسَوْفَ تُفَارِقُ اللَّذَّاتِ قَسْرًا *** وَيُخْلِي المَوْتُ كُرْهًا مِنْكَ دَارَكْ
تَدَارَكْ مَا اسْتَطَعْتَ مِنَ الخَطَايَا *** بِتَوْبَةِ مُخْلِصٍ وَاجْعَلْ مَدَارَكْ
عَلَى طَلَبِ السَّلاَمَةِ مِنْ جَحِيمٍ *** فَخَيْرُ ذَوِي الجَرَائِمِ مَنْ تَدَارَكْ
وأخيرًا،
فليُعلم أنَّ إفراد النِّصف مِن شعبان بالصيام دون سائرِ أيام الشهر لا
أصلَ له، ولم يصحَّ فيه ثَمَّة حديث عن النبي صلَّى الله عليه وسلَّم بل
الحديثُ المروي في ليلة النصف أنْكره جُلُّ أهل العلم المتقدمين
والمتأخرين، كعبدالرحمن بن مهدي وزيد بن أسلم، والإمام أحمد بن حنبل وأبي
زُرعة الرازي، والأثرم والبوصيري، والإمام أبي الفرَج ابن الجوزي والحافظ
ابن رجب الحنبلي، والعلامة المباركفوري والشيخ تقي الدين الهلالي، وغيرهم،
رحمهم الله تعالى.
والله أعلمُ بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحْبه وسلَّم.